ي عام (2008م)، زرت الأديب نبيل سليمان في بيته الريفي، الذي يختزن بين جدرانه حكايات ألف ليلة وليلة، وبرغم أنه لقائي الأول معه، فإن ما يتمتع به من دماثة الروح وعذوبة الحضور، بدّد حالة التكلف التي كان يمكن أن ترتسم على ملامح لقائنا، فكان أقرب للبوح منه للقاء الصحافي الذي تحكمه طبيعة الأسئلة والأجوبة المقتضبة، وهذا ليس غريباً على أديبنا، فغناه الروحي يمثل جزءاً مهماً من غناه الأدبي، حيث حقق حضوراً لافتاً ومتميزاً في حقل الأدب السوري خاصة، والعربي عامة، نظراً لغزارة إنتاجه وتنوعه في مجال الرواية والنقد، فما بين روايته الأولى (وينداح الطوفان) الصادرة عام (1970م)، مروراً بأعمال أدبية كثيرة تراوحت بين الرواية والدراسات النقدية، وصولاً إلى عمله الأخير (تاريخ العيون المطفأة) (2019م)، وفوزه أخيراً بجائزة سلطان العويس الثقافية لعام (2020- 2021م)، تمتد تجربة غنية ورائدة سجلها الأديب نبيل سليمان في معجم الأدب والرواية، تجربة تمتد لأكثر من نصف قرن. أغوته الحكاية منذ طفولته، بتأثير من والده الذي كان يتمتع بقدرة لافتة على السرد والتشويق، عبر سرده للوقائع كما يتخيلها، وأسهم عامل آخر في التأسيس لتجربة أديبنا النبيل، هو انجذابه للقراءة في سن مبكرة، إذ لم يكن قد تجاوز العاشرة من عمره، عندما بدأ بقراءة السرديات التراثية الشعبية، وفي مرحلة لاحقة تطورت قراءاته إلى روايات إحسان عبدالقدوس، ويوسف السباعي وغيرهما من رواد الأدب العربي.. ومن العوامل الغامضة التي يمكن أن تتوافر في إنسان دون آخر، هناك عامل التخييل، وعنه يقول: (كان عاملاً أساسياً في مراهنتي على قراءة الرواية، وكتابتها معاً، لدرجة أن التخوم بين الواقعي والمتخيل، ظلت بالنسبة إلي تخوماً متداخلة، وربما تكون أحلام اليقظة حتى هذه السن تزاحم في أعماقي ووعيي حتى الأمور الموعاة تماماً). نقرأ في أدب نبيل سليمان حساً عالياً باللغة، هذا العنصر الفعّال والحيوي في تقنيات الرواية، وقد أجاد توظيفها في نتاجه الأدبي، حيث نراها تتفجر بمفردات تختلف ما بين كتاب وآخر، وعن التقنيات التي يعتمدها في كتابته، وكيف يعمل على تقنية اللغة بحيث تجعل الالتماعة الأولى حاضرة في كل كتاب نقرؤه له يتحدث: (هذا هو هاجس عمري وحياتي أن أخرج من جلدي مرة بعد مرة مادمت حياً، فلذّة المغامرة في البحث عن كتابة جديدة، عن بناء روائي جديد، عن لغة جديدة، وعلى المستوى اللغوي أظن أن الجذر هو في النشأة قبل الجامعة، وكذلك في دراستي في الجامعة على أيدي أساتذة أجلاء أنشؤوني نشأة لغوية مميزة، فضلاً عما أنشأني عليه جدي بما قرأته تحت وصايته الصارمة من القرآن إلى أشعار بدوي الجبل وغيرها.. وبالوقت ذاته أصغي جيداً للنبض اللغوي للشارع والحياة، فالرواية لا تعيش بلغة القواميس ودواوين الشعر التراثي أو سواها فقط، فاللغة الروائية تتشظى لتصبح لغات، وهذا كله كعجينة يجعل لغة الكاتب مميزة، وأنا حريص جداً على هذا التميز وأعمل عليه حتى الآن). ويشير أديبنا في كتابه (فتنة السرد والنقد)، إلى الممارسة الروائية للنقد، ونقد النقد عبر اشتغال الروائي بنقد شغله الروائي، أو بما يتوازى مع هذا الشغل من النقد، واشتغال الرواية على نفسها وعلى غيرها، مؤكداً أيضاً أنه لا غنى عن الناقد إطلاقاً، ويأسف أن لدى بعض الكتّاب مباهاة بالجهل النقدي، ويحلو لبعضهم أن يقول أنا لا أبالي بالنقد ولا أفهم به، لكن هذه ليست ميزة، ولهؤلاء يقول: (هناك على مستوى الساحة العربية أمثلة كثيرة من الروائيين الذين أثبتوا حضورهم النقدي إلى جانب حضورهم الروائي، فجبرا إبراهيم جبرا كان روائياً وناقداً بامتياز، ومثله إدوارد الخراط، وغيرهما كثر.. وعلى المستوى العالمي عبر تاريخ الأدب هناك دائماً المبدع الناقد، كما أن هناك ناقداً فقط ومبدعاً فقط، ومن هذه الزاوية يلح عليّ دائماً، أن أعمق معرفتي بفن الرواية سواء كنت أكتب نقداً أم لا). أيضاً في روايته (ثلج الصيف) يتحدث الأديب سليمان عن حرب حزيران، وفي رواية (جرماتي) تناول حرب تشرين، وهنا يخطر السؤال: هل بإمكاننا اعتبار الكتابة بحدّ ذاتها فعل مقاومة؟ فيجيب: (ليس بالضرورة أن تلعلع القصيدة أو الرواية بالرصاص أو بالاستشهاد، أو أن تتخبط بالدماء حتى تكون كتابة مقاومة، قد يكون هذا، ولكن شرط أن يكون محكوماً بالفن الذي هو المعيار الأول والأخير، لذلك الكتابة نفسها في زمن كالزمن الذي نعيشه والذي يمتد على مدى القرن العشرين كله وحتى الآن، هي فعل مقاوم للتكلس والتخلف والبلادة وكل ما يكبّل روح الإنسان، وكل ما يشوّه القيم الإنسانية النبيلة الرفيعة، وكل ما يبشر بالعدالة، بالجمال، ببهجة الحياة... بهذه المعاني الرحبة، أنظر للمقاومة في الكتابة). وفي تصريحاته حول فوزه بجائزة سلطان العويس الثقافية يقول الأديب نبيل سليمان: (كانت لحظة سعيدة، أو بالأحرى كانت مفاجأة سعيدة على غير ميعاد، لأنني لم أنتظرها كما لم أنتظر غيرها يوماً، مثل هذه الجائزة تجعلك تشعر بأنك لست وحيداً أو منسياً في ظلام هذا الليل العربي الطويل). وأكّد الأديب سليمان أهمية هذه الجائزة، كواحدة من أفضل التّكريمات الأدبية على مستوى المنطقة، لإسهامها في إنعاش الرواية العربية تأليفاً ونشراً وقراءة، فهي في واقع الأمر، تشكّل نافذة مشرعة على الإبداع الروائي لجيل الكتّاب الكبار، الذي لايزال يرفد الحياة الثقافية بمزيد من الإبداع، إلى جانب جيل الأدباء الشباب. جائزة سلطان العويس الثقافية ليست الأولى التي ينالها الأديب نبيل سليمان، ولا التكريم الأول ولا الأخير، فقد حاز العديد من الجوائز العربية.