المقالات

السرديات الروائية لاتفاقية سايكس بيكو

قبيل رحيله، وفي أعقاب الزلزال في تونس ومصر (2011)، قال سميح القاسم: "من خطايا سايكس بيكو ومشتقاتها وتداعياتها وإسقاطاتها على وطننا العربي الكبير المنكوب بسايكس بيكو: جاء في الأنباء أن الجماهير المنتصرة في القاهرة كانت تسير في الشوارع وهي تهتف: ارفعوا رؤوسكم أنتم مصريون، وليس ارفعوا رؤوسكم أنتم عرب" (الحوار المتمدن 26/2/2011). وكان سميح القاسم قد شخّص إسرائيل بحالة تاريخية نشأت في ظرف تاريخي محكوم بفضيحة سايكس بيكو. وفي مقام آخر، وفيما بين السخرية والمرارة قال إنه حين تتحرر فلسطين، ونتخلص من آثار جريمة سايكس بيكو، لن يعود هناك من مبرر لكتابة شعر المقاومة، لكنه سيكون قد بلغ عندئذٍ المئتين أو المئتين وعشرين سنة. لأم الخطايا هذه، للفضيحة والجريمة هذه، كما سمّى سميح القاسم سايكس بيكو بأسمائها غير الحسنى، حضورها الذي لم تزده الأيام إلا حضوراً، وبخاصة وهي تكمل مئويتها، وتتجدد منذ زلزلت الأرض العربية زلزالها عام 2011. هكذا نقرأ لخطيب بدلة واحدة من إبداعاته في السخرية السياسية تحت عنوان (أهلاً عمي سايكس أهلاً عمي بيكو) في العربي الجديد (14/9/2014). رسمت خطاً: وها هو الخليفة الداعشي أبو بكر البغدادي يخطب في الموصل في تموز 2014: "لن يتوقف هذا الزحف المبارك حتى ندق آخر مسمار في نعش مؤامرة سايكس بيكو". وكان داعش قد بث في صيف 2014 فيلم (نهاية سايكس بيكو) مصوراً إلغاء الحدود بين سوريا والعراق كإعلان عن نهاية نظام الدولة – الأمة، وتوعد داعش بأن هذه الحدود ليست الوحيدة التي سوف يزيلها. في ذلك الصيف نفسه بثت وكالة رويترز في مقالة أن اتفاقية سايكس بيكو "رسمت خطوطاً على رمال الشرق الأوسط، تغسلها الدماء". وقد روى الكاتب البريطاني جيمس بار في كتابه (خط في الرمال) أن سايكس قال إنه يريد أن يرسم خطاً يبدأ بألف عكا وينتهي بكاف كركوك، أي بالحرفين الأخيرين من اسمي المدينتين الفلسطينية فالعراقية. ولعل هاني الراهب (1939-2000) كان قد تأثر بكتاب بار في عنوان روايته (رسمت خطاً في الرمال – 1999). ولعل للمرء أن يتقرى اتفاقية سايكس بيكو في هذه الرواية التي تتهجّى قيام الحدود والكيانات والدول والدويلات الخليجية. ومن ذلك، بالسخرية والرمزية البديعتين، قول الدكتور ربيع أحمد: "نحن شعب أنشأه الإنكليز، قال، وبضعة آلاف تلملموا من عشائر الصحراء. رسم الإنكليز حولهم خطاً بقلم الرصاص، وقال: كونوا نفيطة جيم". وفي الرواية أن الجنرال فيكس قد امتشق قلماً وفتق ورقة ورسم خطاً من البحر إلى الصحراء فإلى الصحراء فإلى البحر: "قال، لتكن هذه نفيطية سين، فكانت. وقال: لتكن هذه نفيطية جيم، فكانت. قال لتكن النفيطيات، فكانت. ذلك هو الميجر فيكس صانع الدول". الغائب الحاضر: ثمة سرديات أخرى تكون اتفاقية سايكس بيكو فيها هي الغائب الحاضر أكثر مما يتلامح في رواية (رسمت خطاً في الرمال). وربما كان ذلك بسبب الاشتغال السردي على التأرخة والوثيقة كما في رواية ناديا خوست (أعاصير في بلاد الشام – 1987) التي تحدد ميلاد بطلها قيس بعد اتفاقية سايكس بيكو، وكذلك روايتها (دماء وأحلام في بلاد الشام – 2009) التي يدور فيها الحديث في نادي الصفا حول شنق شهداء 6 آيار واتفاقية سايكس بيكو، ومثلها رواية (الهجرة من الجنة – 1989) التي تتحدث عن تضرر مدينة حلب من معاهدة سايكس بيكو، لأنها قطّعت أوصالها مع العراق. وفي الجزء الثاني من رواية واسيني الاعرج (رماد الشرق) وهو (الذئب الذي نبت في البراري – 2013) نرى الشخصية التي تتولى الاستذكار من ماضي فلسطين، تروي صفحات عن الموقف من العثمانية ومن الإنجليز: "ذئب خلّصنا من ضبع، لكن الذئب يتمادى". كما تحضر مفردات اتفاقية سايكس بيكو في غيابها؛ حين يكتشف بابا شريف الذي رأى والده في سجن عاليه ثم معلقاً على المشنقة، أسماء الأمير فيصل ولورنس العرب والجنرال اللبني.. قبل ذلك دفع نهاد سيريس بالجزء الثاني من روايته (رياح الشمال) وعنوانه (1917). ومن حضور الغائب – الاتفاقية، ما في الحوار بين خليل عوض والأستاذ عبد الجليل وصالح بنبوك، حين يتساءل الأول: هل نتعاون مع الإنكليز أم لا؟ فالأمير فيصل عضو جمعية العربية الفتاة يرفض أن يقتنع بالأقوال التي تسربت عن أن الإنكليز والفرنسيين يحضرون شيئاً غير سعيد بالنسبة لمنطقتنا". وحين يطلب صالح بنبوك توضيحاً، يضيف خليل أن الأمر لايزال مبهماً، والرفاق غير مقتنعين، ويثقون بالإنكليز، وهذا ما يؤكده عبد الجليل... ولا تخفى الإشارة في كل ذلك إلى تسريب الروس لاتفاقية سايكس بيكو، وإنكار الإنكليز. وستتكرر الإشارة بعد رحيل الأتراك عن حلب، وذلك في رسالة صالح بنبوك إلى زينب، حيث يحدثها عن أرمني مثقف هو وارتكس، قبض عليه في كسب وكان في روسيا، وحدّث عن ثورة الروس (1917) وإيقافهم الحرب مع الأتراك. اتفاقية سايكس بيكو كفاعل روائي: بخلاف ما تقدم، حضرت اتفاقية سايكس بيكو بصراحة في روايات محدودة، ولكن بدرجات متفاوتة كفاعل روائي: الزوبعة: في الفصل الحادي والعشرين من رواية زياد قاسم (1945-2007) وعنوانها: (الزوبعة – الجيل الأول – 1994)، يتحدث السارد عن سنوات الحرب التي ضاقت بالدسائس والمؤامرات، وعما تبدل بعدما رجحت كفة الحرب لصالح الحلفاء، وتمددت معها الثورة إلى خارج الحجاز. ويرصد السارد ما طرأ على معنويات العرب والحلفاء إثر اندلاع الثورة الشيوعية في روسيا، وتسليم الأتراك الاتحاديين الوثائق التي استولوا عليها من خزائن القيصر، والمتعلقة باتفاقية سايكس بيكو، ونصت على كيفية اقتسام الغنائم، وتوزيع الأراضي العربية، عند انتهاء الحرب. ويتابع السارد أن جمال باشا سلم الوثائق إلى شريف مكة محذراً من مؤامرة الحلفاء. لكن الشريف استفسر من الحليف الإنكليزي – ولم يسأل سواه – فنفى نفياً قاطعاً وجود مثل هذه النية، وأكد أن الاتفاقية جاءت لتحرير العرب من الأتراك. لكن تداول هذه الأخبار أصاب العرب وزعماءهم بالريبة، بينما فسر كثيرون، وبخاصة الموالون للغرب، الأمر على أنه مناورة تركية لتأليب العرب على الحلفاء. وهكذا وجد العرب أنفسهم في معمعة، غير قادرين على التراجع ولا على التوقف، وما من سبيل أمامهم إلا بالمضيّ قدماً حتى إسقاط الحكم التركي وجلائه، ومن بعد، إن قدر لهم أن يحاربوا الإنكليز والفرنسيين فإنها مشيئة الله، وليست مشيئتهم. على هذا النحو التقريري يتابع السارد أن نشر الوثائق السرية (الاتفاقية) لم يعد على تركيا بخير يذكر، فقد استمرت الثورة، وسقطت بغداد بيد الإنكليز الذين دخلوا فلسطين، ونزلت الأساطيل الفرنسية على شواطئ لبنان، وتحولت محطة عمّان إلى ثكنة عسكرية تعج بالآلاف من الأتراك المنسحبتين من الجزيرة ومن فلسطين. وفي هذا الموضع قرب نهاية الرواية يأتي حوار مطول بين لورنس والجنرال اللبني الذي يأمر الجاسوس الشهير بمنع الأمير فيصل من دخول سورية: "لن يسبقنا هذا البدوي إلى دمشق". وحين يسأل لورنس: "لماذا أنت محتد؟" يرد اللبني بأن سوريا منطقة نفوذ فرنسي، بمقتضى الاتفاق. فيتابع لورنس أنكم قلتم إن الاتفاق مجرد أوراق، ويعقب اللبني كما الحكيم: "كل شيء في الدنيا مجرد أوراق" بما في ذلك أنت وأنا". وحين يسأل لورنس عن العرب الذين لولاهم لما هزمت تركيا، يجزم الجنرال أنها كانت ستهزم، وربما كانت الحرب ستطول قليلاً بدون العرب. ويتابع الجنرال رداً على ما يقرره لورانس من أن الجنرال أصبح سياسياً، بأنه ينفذ الأوامر التي تحدد سوريا كمنطقة للنفوذ الفرنسي، والفرنسيون لن يسكتوا على دخول فيصل إلى دمشق، لذلك على لورانس أن يواصل المشوار ويمنع فيصل من الدخول "من أجل بلادك". لكن لورانس لا يرى في ذلك إلا مشكلة فرنسية، بينما يقرر اللبني أنها مشكلة إنكليزية أيضاً "على كل منا أن يحترم الاتفاق ويساعد في تنفيذه". أعدائي: في الفصل السابع والعشرين من رواية ممدوح عدوان (1941-2004) وعنوانها: (أعدائي- 2000)، أي قرب نهايتها، يعبر شكري العسلي الضابط العثماني الهارب من الجبهة الروسية التركية، للأمير فيصل عن قلقه من وعد بلفور، فإذا بالأمير قلق مثله رغم تطمينات والده، وينتظر التوضيح الذي سيأتي به لورنس. ولسوف يقضي شكري العسلي مع شهداء 6 أيار، بينما يسأل لورانس الأمير عما يعكر مزاجه: "هل هو بسبب ما يشاع عن اتفاقية سايكس بيكو؟" فيرد الأمير: "ليست وحدها، ولست وحدي القلق، كلنا قلقون من وعد بلفور". على هذا النحو من سَوْق المعلومة التاريخية عارية أو شبه عارية، كما تقدم في رواية (الزوبعة) أو في روايات واسيني الأعرج وناديا خوست، تحضر اتفاقية سايكس بيكو في رواية (أعدائي)، وبخاصة في صياغة السارد الطويلة لخطاب جمال باشا في بيروت بعد فضح الاتفاق، وقبل مغادرته إلى ألمانيا، حيث روى أن الخارجية الروسية المنسحبة من التحالف بعد الثورة، نشرت اتفاقاً سرياً بين سايكس وبيكو، يتضمن أن المنطقة العثمانية التي يطمح الشريف حسين إلى حكمها بصفتها دولة عربية وبصفته ملكاً عليها، سيتم تقاسمها بين الإنكليز والفرنسيين، وأن اليهود يعملون لصالح الإنكليز لأنهم وعدوهم بتحقيق حلمهم بدولة يهودية في فلسطين. ويتابع جمال باشا أن التفسيرات التي قدمت للشريف حسين تجعله يظهر بمظهر البدوي المغفل حين يتحدث عن العلاقة مع اليهود من خلال القرابة وتقاليد الضيافة في عالم جديد قائم على المخططات والمشاريع، والشريف بذلك يدخل عالم السياسة المعاصرة بعقلية مشايخ العشاير. ويعلن جمال باشا أنه لكي يبرئ ذمته أمام الله والتاريخ والعرب والمسلمين، لكأن دماء شهداء 6 أيار وسواهم ليست في رقبته، أرسل نسخة من اتفاقية سايكس بيكو إلى الأمير فيصل في العقبة، دعاه فيها إلى الانشقاق عن الإنكليز، والتعاون معه قبل فوات الأوان. كما أرسل نسخة من الاتفاقية إلى الأمير عبدالله الذي كان من أكثر المتحمسين والمشتغلين للاتفاق بين والده الشريف والإنكليز، ولم تزعجه الاتفاقية، بينما اضطرب فيصل، وأرسل الاتفاقية إلى أبيه يسأله الرأي، فأرسلها الشريف حسين إلى الإنكليز الذين شكروه على ثقته. وتصميماً من جمال باشا على إبراء ذمته يرسل الاتفاقية إلى جعفر العسكري القائد الأعلى لدى الأمير فيصل، لكي يكون الضباط العرب المخدوعون على بيّنة من أمرهم، ولكي يعرفوا إلى أين يقودون أمتهم وهم منخدعون بالشريف. قبل ذلك، في الفصل الثاني والعشرين، يقود بطل الرواية عارف الإبراهيم الجاسوس الصهيوني ألتر من القدس إلى دمشق. وفي حوار بين الرجلين يقول ألتر إن (تحالفاتنا مع (أصحابكم الإنكليز والفرنسيين) صارت أقوى من (تحالفاتكم). ويتنبأ للمستقبل العربي الباهر أنه سيكون على العرب أن يتخلصوا من الإنكليز والفرنسيين ونتائج معاهدة سايكس بيكو، ثم أن يتخلصوا من تخلفهم وحكامهم الذين سينصبهم الإنكليز والفرنسيون، والذين لن يصعب شراؤهم على الصهاينة أو على غيرهم. وفيما يبدو خطاباً لنا في مئوية اتفاقية سايكس بيكو يقول ألتر: السلسلة طويلة، ستستغرق منكم أكثر من مئة سنة، وخلال ذلك سنكون قد حققنا حلمنا. مدارات الشرق: يسعى كاتب هذه الرواية الرباعية إلى أن يلتقي القنصل الفرنسي في بيروت: جورج بيكو، بعدما تردد أنه سيكون قريباً جداً مندوباً سامياً لمتابعة شؤون الشرق الأدنى، وسيفاوض البريطانيين في مستقبل البلاد العربية. لكن اللقاء لم يتحقق لسبب ما، فلحق الكاتب بالمندوب السامي بيكو إلى القاهرة. لكن بيكو اختفى ربما في أعماق النيل أو في أعماق هرم خوفو، ومعه نظيره البريطاني مارك سايكس. ومع الرجلين اختفى المندوب الروسي. وسيعلم الكاتب بعد عودته خائباً أن الروسي أشرف على مفاوضات الإنكليزي والفرنسي، والتي تتوجت باتفاقية القاهرة السرية، ثم توجه المندوبون الثلاثة إلى بطرسبرغ حتى توالت المفاوضات التي تتوجت بما سيعرف باتفاقية سايكس بيكو. وكان ليون تروتسكي، وزير خارجية روسيا بعد ثورة 1917 هو من أسرّ للكاتب بذلك وبسواه. عندما رفرف علم الثورة العربية التي أطلقها الشريف حسين، ابتهج الكاتب. لكنه ابتأس عندما قيل إن مارك سايكس هو من صمم ذلك العلم، أو حدد ألوانه على الأقل. وسيتضاعف ابتئاس الكاتب عندما يتخلق ذلك العلم علماً لفلسطين أو علماً لحزب البعث العربي الاشتراكي أو علماً للأردن. هكذا كانت حال الكاتب عندما ابتدأ مغامرة روائية ربيع عام 1986، ولم تتوقف حتى ربيع 1993، وذلك بصدور الجزأين الثالث والرابع من رباعية (مدارات الشرق). أما الجزءان الأول والثاني فقد صدرا عام 1990، وفيهما كان لاتفاقية سايكس بيكو ما كان. ومن أجل ذلك بلغ (بي) الحفر في الوثائق وكتب التاريخ والمذكرات والدوريات أن تماهيت بمارك سايكس وجورج بيكو، ليس فقط لأرى رأي العين كيف تم التوقيع عليه في نيسان 1916، ولا كيف انضمت إليه إيطاليا بعد شهر، بل لأرى كيف ترتسم الخرائط وتقوم الدول، ليس فقط في أمس قريب أو بعيد، بل في حاضر طريف، وربما في مستقبل أين منه ما سبقه. الأشرعة: في مستهل الجزء الأول من (مدارات الشرق) وهو (الأشرعة) يسرع سليم أفندي إلى بيروت حين ارتفع فيها العلم العربي. لكن الفرنسيين سبقوه، وأبهظه القلق على العلم الذي لم يكد يبرق في طرابلس أو اللاذقية أو أنطاكية، حتى رمي أرضاً. وحين يجلجل سليم افندي: "الآن بدأ تاريخ هذه البلاد" يعبر صديقه الباشا شكيم عن خشيته من أن يكون هذا التاريخ قد بدأ من قبل في رؤوسهم: الإنكليز والفرنسيون واليهود وربما سواهم. بعد قليل من النصر الملغّم الباهت، ومنذ أهلّ عام 1919، أخذت المظاهرات تجوب الشام / دمشق يومياً تقريباً. ومن شخصيات الرواية العاملان المتظاهران هولو وعبد الودود اللذان يدركان أن رحيل الأتراك لم يجل غمة الشام بعدما قُطِّعت تقطيعاً، فالاستقلال الذي يعد به (القصر) لن يكون غير انسحاب للإنكليز من الشباك، ودخول الفرنسيين من الباب. وعبد الودود ينقل مما يسمع في مجلس سليم افندي من الأعيان: هذا يفضل الإنكليز، وهذا فرنسا، وثالث: أمريكا، وهذا يغمز من القصر حيث الأمير فيصل عاجز إن لم يكن خائناً، وهذا ينصح بالصبر، وثالث: لا نجاة إلا بالقتال، والروس لاهون بأنفسهم. وفي غمرة ذلك، أي في تموز 1919، تحضر لجنة كينغ – كراين الأمريكية إلى دمشق على إيقاع رفض المؤتمر الوطني السوري لاتفاقية سايكس بيكو، ولوعد بلفور. وكان حضور اللجنة لـ (استفتاء) الناس عما يرغبون لبلادهم. ومما تصور الرواية تجمهر المتظاهرين أمام أوتيل فكتوريا، حيث تنزل اللجنة، وثمة من يؤكد أنها لن تقبل لعبة سايكس وبيكو، ولا اللعبة اليهودية في فلسطين. ويعلو صوت أحدهم عما قال الناس في القدس: إن لم تتوقف هجرة اليهود، فإما أن نلقيهم في البحر أو يردونا إلى البادية. ومن الهتافات التي صدعت اللجنة (لا وصاية ولا حماية) و(الاستقلال أو الموت) ونشيد (أنت سوريا بلادي) في إيقاع بدائي حار، يجعل الأجساد نفوساً مشبوبة، والنفوس أجساداً تتفجر رغبة وعنفاً. لقد كان هاجسي الأكبر في (مدارات الشرق) كما في سائر رواياتي، هو في تسريد الوثيقة والخروج من إهابها، ومن إهاب التأرخة، ليتخلّق البشر والوقائع والجغرافيا روائياً، بفضل التخييل، ولتكون أخيولات، فتصير الرواية هي الوثيقة، وليس العكس، وتصير الرواية حفراً في التاريخ، وليس ملخصاً له ولا نسْخاً عنه. وقد بدأت (الأشرعة) بوصول خمسة من عناصر جيش الأمير فيصل الذي بلغ دمشق. وفيما يستعيد أولاء من طريقهم إلى دمشق، يبرز سادسهم حمادي الحسون الذي فرَّ بعدما اصطخب الفضاء بالمناشير التركية التي تفضح خديعة الإنكليز والفرنسيين، حتى أعلن ضباط العصيان، وهتف حمادي مع من هتفوا: نقاتل الإنكليز أولاً. وحين يمضي أحدهم (راغب الناصح) إلى مخفر (العال) في الجولان، بصحبة الشاويش، سيزوره عزيز اللباد من زمرة الجنود الخمسة الذي يتساءل: "لماذا تطمع الدنيا ببلادنا؟ بل لماذا تطمع الناس ببعضها؟ ماذا يضرهم لو تركونا نعيش بسلام؟ هل كتب الله علينا ذلك؟ مرة الأتراك ومرة الإنكليز ومرة الفرنسيين، وها هي فلسطين تبتلى بالصهيونية..". لكن الشاويش لا يرى في الأمر خديعة، بل هي السياسة: دهاء وشطارة كما يقول الكبار (الضباط). على مستوى آخر هو لعلية القوم، ثمة الست لميعة زوجة المستر بيجيت وشقيقة الباشا شكيم، تحدث شقيقها عن أن الحكومة التي أعقبت رحيل الأتراك ليست خارجة على سلطة الإنكليز والفرنسيين معاً، لأن سوريا قانونياً هي جزء من بلاد العدو المحتلة، وجيش سوريا جزء من جيوش الحلفاء التي حررت بلاد العدو. ولقد وقف الباشا الكهل مع الشباب في قرار المؤتمر السوري رفض اتفاقية سايكس بيكو وتعديلاتها، ورفض الهجرة اليهودية إلى فلسطين، وطلب المساعدة من أمريكا على بريطانيا. إلا أن صوت الست لميعة وما يمثله يختم (الأشرعة) بتقسيم سوريا إلى سبع دول، فيتفجر السؤال الملتاع عن دولة دمشق ودولة حلب ودولة العلويين ودولة لبنان الكبير أو الصغير ودولة الدروز ودولة أخرى في فلسطين ودولة سابعة شرقي الأردن، وسوى ذلك خلف الحدود التي رسموا لسوريا من كل ناحية. ولم يبق إلا أن يحددوا فوقها للشمس كيف تدور. بنات نعش: في الجزء الثاني من (مدارات الشرق) وهو (بنات نعش) يتركز حضور اتفاقية سايكس بيكو وما تفتق عنها في الآثار الفلسطينية لكل ذلك، وبخاصة عبر شخصية عمر التكلي الذي أسند له الباشا شكيم أن يدير أملاك زوجته في سهل البطيحة في الجولان، حيث القوافل الذاهبة الآيبة من القرى الجولانية إلى صفد أو الناصرة أو النبطية أو الشام. وإذ قرر عمر أن يضبط عمل الجمّالة الذين يهرّبون الكيروسين من صفد، قرر أن يزور صفد والناصرة. وفي الطريق استهوته طبريا وحماماتها، واستوقفته الحولة وقلعة الحصن المقبلة عليها، وصبيب نهر بانياس فيها. أما في صفد، حيث اصطحب مساعده طه، فقد عقد صفقة صغيرة، لأن القدوم إلى فلسطين كان قد غدا متعباً بعدما شدد الإنكليز على الحدود مع سوريا، ورفعوا الرسوم الجمركية. ومن صفد إلى نابلس، ومن عاهرة يهودية إلى أخرى تجددان لعمر ذكرى علاقاته مع سارة أو صليحة أو المغنيات اليهوديات في دمشق، يمضي الرجل دون أن تهدأ شكواه من الإنكليز كأنما لا يريدون له أن يعمل في فلسطين. أما هولو، شقيق عمر ونقيضه، فقد أقام فترة في حي المنشية في حيفا بعد ما صار اتفاق سايكس بيكو واقعاً. وفي حيفا يلتقي بالشيوعي بديع الطارة وأصدقائه، ويرى المستعمرات الصهيونية على الساحل "كأنهم يسابقون الزمن". وتتفجر هواجس هولو: "كيف يقبل ملك في مكة أو في الشام أن تكون فلسطين ملجأ لليهود، ثم يتشاطر ويشترط السيادة العربية؟ يؤيد هجرة اليهود ثم يتحرز على المبالغة فيها، يؤيد التعاون مع الصهيونية ثم يتحفظ على تأسيس دولة (....) والله لم يقصّر، لا اليهود ولا الإنكليز، حين رفضوا أن تكون فلسطين تحت عرش من يلعب هكذا". ويرصد هولو في حيفا أصداء الثورات في سوريا، على الرغم من أن هزائم الثوار بدات تتواتر، لكن حيفا لا تتحدث إلا عن إخفاق الفرنسيين. وقبل ذلك، كانت فرنسا قد خصصت قطاراً مسلحاً لنقل بلفور من حيفا إلى محطة القدم في دمشق. لكن المحتشدين في المحطة هاجموا القطار، فهرّب الفرنسيون بلفور إلى السيارة فالأوتيل، حيث احتشد المتظاهرون، واضطر الفرنسيون إلى تهريب بلفور من الباب الخلفي للأوتيل، والإسراع به إلى بيروت. وكان هولو التكلي من شخصيات الرواية التي شاركت في ذلك، كما شارك سواه في ذيول أخرى لاتفاقية سايكس بيكو، في سوريا أو لبنان أو فلسطين، وبقدر ما كانت الاتفاقية وذيولها وما تفتقت عنه فاعلاً حاسماً في حيوات الشخصيات الروائية، سواء من المقاومين بمختلف أشكال المقاومة، أم من المنخرطين في الركب الفرنسي. ولعل ما هو أولى بأن يختم هذه الرسوم لسرديات اتفاقية سايكس بيكو، هذا الذي اقترحه الفلسطيني المقيم في كندا: نور الدين الشريف، من إنتاج أفلام كرتون للأطفال حول قضايا كبرى، فتحل، مثلاً، شخصيات مثل جورج بيكو وكارل سايكس محل الباتما والسوبرمان والبوكمون. وإذ يستعرض صديق للشريف ما يشغل الأطفال الآن من حروب في الفضاء الخارجي، ويضرب مثلاً بانفجار كوكب وتحول بقاياه إلى كويكبات، يلتقط الشريف الفكرة ويصوغها في قصة (أعرف ماذا سأكون) محدثاً الأطفال عن أننا كنا في الماضي البعيد كوكباً واحداً، حتى هاجمنا سايكس وبيكو على متن سفينة فضائية، فتم تدمير الكوكب، وتحولت بقاياه إلى كواكب صغيرة بلغت العشرين. وهكذا، من مشهد إلى مشهد، سيرى الاطفال بعد قرن من اتفاقية سايكس بيكو، كيف صارت شظية من كوكبنا مثل خريطة فلسطين، وشظية مثل خريطة العراق، وشظية مثل خريطة الكويت.. أما أنا، فما أخشاه أن يكون خيال (مدارات الشرق) أو خيال أية سردية لاتفاقية سايكس بيكو، قاصراً عما ينتظرنا من اتفاقية سايكس بيكو القادمة التي تعد بتواقيع أكبر وتبذرير أكبر.