في الذكرى الخمسين لحرب تشرين الأول – أكتوبر 1973 يتجدد السؤال الكاوي عمّا بين الرواية وزلازل الحروب والثورات، وبخاصة أن الانتصار الأول في تلك الحرب سرعان ما التبس بين أنها حرب (التحرير) أم حرب (التحريك). كما أن الهزائم الكبرى أسرعت بعد حرب 1973، من حرب 1982 واحتلال إسرائيل لبيروت إلى حروب العراق الكارثية والعشرية الجزائرية السوداء إلى هزائم الثورات والانتفاضات التي زلزلت سوريا وليبيا واليمن بعد الـ 2011. إزاء كل ذلك كابدت الرواية العربية السؤال / التحدي عن علاقتها بالراهن واللهاث خلف الأحداث، وعن غلبة السياسي على الفني. ولذلك تجد أن ركام الروايات التي ارتهنت لزلازل الحروب والثورات سرعان ما وقع في النسيان، ولم ينج إلا أقل القليل الذي غالب الارتهان، وغلبه، والغلْب إنما هو في أن الرواية أولاً وأخيراً فن. بعد سنة واحدة من حرب 1973 جاء الصدى الروائي السريع في رواية حلمي القاعود (أكتوبر حبيبي) ورواية حسن محسب (المصير). والأهم كان رواية إحسان عبد القدّوس (الرصاصة لا تزال في جيبي)، وهي التي أنقذتها السينما من جهة، وسمعة كاتبها وتاريخه الطويل. أما في سوريا فقد جاء الصدى في رواية قصيرة لحنا مينه هي (الجبل) التي صدرت في كتاب مشترك للكاتب مع نجاح العطار سنة 1974. غير أنّ حنا مينه سيعود إلى (الجبل) فيطوّرها ويصدرها مستقلة تحت عنوان (المرصد). ولا يبدو مبرراً في الرواية أن جاءت أسماء الشخصيات من الضباط بالحرف الأول. كما أن طموح الرواية إلى الإحاطة بالمعارك الجوية والبحرية والبرية قد أرهقها. وعلى أية حال، إذا كان حنا مينه وعبد السلام العجيلي من سوريا قد كتبا روايتين متواضعتين الحرب 1973، فالسؤال الذي دوّى بعد حرب 1973 في مصر، سنة بعد سنة، إلى أن تلاشى، كان عن سبب عزوف الكتّاب الكبار عن الكتابة الروائية عن هذه الحرب، والاكتفاء بكتابة المقالة، من نجيب محفوظ أو عبد الرحمن الشرقاوي أو يوسف إدريس إلى توفيق الحكيم أو يحيى حقي؟ من الجيل التالي لهؤلاء كتب الرواية آخرون في السنوات التالية، منهم عمار علي حسن صاحب (زهر الخريف) التي تتمحور حول الصديقين الشابين علي عبد القادر (المسلم) وميخائيل ونيس سمعان (القبطي). وقد التحقا بالجيش. وكما تصديا في القرية للعصابات التي كانت تنهبها، قاتلا في حرب أكتوبر، فاستشهد ميخائيل ودفن في القرية الصعيدية، بينما ظل أمر علي مجهولاً إلى أن جزم زميل له باستشهاده في الصحراء. وقد وفر الكاتب للرواية ببراعة نسغاً شعبياً عبر سيرة بني هلال، وكذلك العرافة الغجرية. وثمة أيضاً رواية علاء مصطفى (دويّ الصمت) والكاتب ضابط خاض حربي 1967 و 1973. أما رواية (موسم العنف الجميل) لفؤاد قنديل فقد صورت أحوال العسكريين قبل الحرب وأثناءها، على ضفتي القناة، ومن ذلك كتيبة المشاة التي حوصرت على الضفة الشرقية. وقد توفرت لهذه الرواية نكهتها الخاصة، وقريباً منها بدت رواية (رجال وشظايا) لسمير الفيل، ورواية (عمالقة أكتوبر) لسعيد سالم. أما الأهم فهو ما صدر لجمال الغيطاني ويوسف القعيد عام 1977: رواية (الرفاعي) للأول ورواية (الحرب في بر مصر) للثاني. في حوار لي مع جمال الغيطاني نشر في الملحق الثقافي لجريدة الثورة (دمشق 17/3/1977) تحدث عن الكتابة القصصية والروائية العربية والعالمية عن الحرب، ومنها مشروع روايته (الرفاعي) التي صدرت بعد شهور، ومما قاله بصدد روايات حرب 1973: "إن انتهازية جديدة قد راجت، حاولت أن تمسح كل ما سبق، ابتداءً من حرب الاستنزاف. يوسف السباعي كتب أربع روايات عن حرب أكتوبر. حلمي القاعود كتب (أكتوبر حبيبي)، وسواهم غير قليل. ولكن ما قيمة هذا الزبد كله؟" طوّر الغيطاني قصته الطويلة (أجزاء من سيرة حياة عبد الله القلعاوي) فغدت رواية (الرفاعي) مستلهماً حياة مؤسس وقائد المجموعة (39 قتال). أما يوسف القعيد فقد اختار زاوية فريدة وكاشفة للكتابة عن الحرب عبر قصة الخفير (مصري) الذي تم تجنيده بديلاً لابن العمدة، وقُتلَ في الحرب. وقد انقضت من بعد سنوات قبل أن تعود رواية أو أخرى إلى حرب 1973. ففي عام 1985 صدرت رواية محمود الورداني (نوبة رجوع)، وقد متحت – كرواية (الرفاعي) – من سيرة الكاتب أثناء خدمته في الجيش، كما وسمتها الوثائقية. وفي عام 1986 جاءت رواية (بدر 73 سري للغاية) لشحاتة عزيز، متمحورة حول شخصية الطالب جلال وخدمته في الجيش، حيث ترسم صورتين متناقضتين للقاهرة في الإجازات وللجبهة مقابل الجندي الإسرائيلي، وعبر التدريبات على العبور. وإذا كان الكاتب قد استخدم العديد من التقنيات السردية المعروفة، فقد نال الترهل والتشتت من الرواية كثيراً. في سوريا صدرت رواية عبد السلام العجيلي (أزاهير تشرين المدماة) عام 1977، مكررةً ما ذكرتُ عن رواية (المرصد) من الإصرار على جمع كافة صنوف الأسلحة وكافة المعارك. وقد بدأت الرواية من حرب الاستنزاف على الحدود السورية ربيع 1974، وعادت إلى حرب 73 متوسلة الفلاشات الطويلة. وإذا كان قد تألق من ذلك تصوير معركة بحيرة طبريا فقد وقعت حكاية المجند الذي أوقف رتل الدبابات الإسرائيلية في سعسع في المغالطات العسكرية التي تنم عن ضعف الخبرة بموضوع الرواية. ويمكن القول بعامة إن العجيلي قد استخدم الشخصيات الروائية كقنوات لتفريغ المادة الوثائقية، وأغلبها من حملة الرتب الكبيرة التي يبدو إزاءها صغار الضباط وصف الضباط والأفراد مسحوقين. ولعل الشخصية الوحيدة التي نجت من علل سواها هي شخصية المساعد نعمان. وفي الرواية سخرية من المساعدات العسكرية السوفييتية كمّاً ونوعاً، وقد كتبتُ عنها منذ أكثر من ربع قرن أنها مثال آخر لإخفاق الرواية في سوريا في التعلق بحرب 1967، وهي بالنسبة لتاريخ العجيلي الفني الطويل والحافل تراجع مفاجئ وكبير. وكان الروائي الراحل عبد النبي حجازي قد رأى في هذه الرواية ريبورتاجاً تقريرياً ومباشراً، وشهادة مسطحة الشخوص. بدرجة أدنى جاءت رواية كوليت خوري (دعوة إلى القنيطرة – 1976) التي بُنيَتْ من مجموعة من القصص في قسمين فصلت بينهما هوّة عميقة، مما أربك البناء. ولست أدري ما سرّ مثل هذه التسمية للشخصية (سهيل .ش.) أو (مجلة ف.). وقد عُنيَتْ الرواية بوعيد موشيه دايان بدخول دمشق، وقابلت ذلك بدعوة المحامي سهيل لوفد صحفي إلى الغداء في مدينة القنيطرة تحدياً لوعيد دايان. وتشبك الكاتبة بين قصة كاميليا المومس الشابة التي قتلت زوجها لتتخلص من الاضطهاد، وبين أجواء الحرب. ويتكرر في الرواية ما كان في رواية العجيلي عن الأسير الاسرائيلي الذي جرى إنقاذه في المشفى، وكذلك اعتماد المشفى كمخرج فني لحديث الحرب. بالانتقال من روايات الكتّاب الكبار إلى روايات من تلوهم، لا يبدو الأمر أفضل. ففي رواية عبد الرحيم الخطيب (يهطل المطر في تشرين) تبدو الشخصيات مصطنعة، لا أثر فيها للحظات الضعف الإنساني. وهذه الرواية وحدها انتقلت إلى الريف لتصور قرية قريبة من مطار دمشق الدولي قبل الحرب وأثناءها، حيث تنقلت بين الجبهة والقرية. وما أكثر ما أبهظ الرواية الحرص على الشرح والتفسير والتلخيص. وهذه الرواية تومئ – كما فعلت رواية (زهر الخريف) من مصر – إلى الوحدة المسيحية الإسلامية في استشهاد العسكري المتديّن الملتحي عبد الحفيظ مع قائد سريته الملازم الياس. وأذكر أخيراً رواية أحمد يوسف داوود (دمشق الجميلة – 1967) التي تحركها القدرية بالمعجزة والمصادفة والمفاجأة، فيكون مثلاً أن تلتقي الممرضة نادية بحسان إبراهيم أثناء غارة إسرائيلية على دمشق، أو يكون مثلاً لسعد الدين ربيع رومانسية الشعراء المهجريين ... ولعل الشخصية الوحيدة التي لا تعتورها علّة فنية هي شخصية الحاجة لطيفة. وقد اختارت الرواية المستشفى والتمريض كمخرج لمأزق الكتابة عن الحرب بما تتطلبه من الخبرة والجهد. ففي المستشفى، وكما في روايتي عبد السلام العجيلي وكوليت خوري، تحضر الأحداث نفسها: صواريخ سام تصطاد الطائرات الإسرائيلية المغيرة على دمشق. وإذا كان أحمد يوسف داوود قد بدأ روايته من لحظة الحرب الأولى ظهيرة السادس من تشرين الأول – أكتوبر 1973، وملأها بمقتطفات من البلاغات العسكرية، فقد ختم الكاتب الرواية بالسؤال عن سبب إيقاف القتال؟! من غير بلدي الحرب العربيين: سوريا ومصر، وفي حدود ما أعلم، كان الكاتب المغربي مبارك ربيع وحده من كتب رواية عن هذه الحرب، هي (رفقة السلاح والقمر – 1976). وكانت المغرب قد أرسلت (التجريدة المغربية) من أجل تحرير سيناء والجولان، فشاركت في الحرب، وعادت إلى بلدها بعد فصل القوات السورية الإسرائيلية في صيف 1974. تبدأ الرواية وتنتهي بمشاهد عرض التجريدة في الرباط بعد عودتها، ومعها قوة سورية رمزية. ومع المشاهد تأتي مناجاة السرجان الحاج الركراكي الذي حارب في الهند الصينية، واستشهد ابنه في الجولان السورية. ويعرّف الكاتب بكل شخصية في بداية الرواية، لكن الشخصيات السورية تظل غائمة وممجّدة. والرواية يلفعها بحرارة الهوى القومي العربي الوحدوي – كما تجلى بخاصة بشخصية سامية الفلسطينية التي تدرس في بيروت – والهوى الإسلامي، فعناصر التجريدة، بحسب الرواية، هم حماة العروبة والإسلام، وقدومهم إلى حرب 1973 هو جهاد دين مع ذوي القربى. تلك هي الحصيلة الروائية المتواضعة لحرب 1973، والتي يصح فيها ما كتبه محمود أمين العالم في سنتها التالية: "إن القضية ينبغي ألا تتحول من إبداع أدب هزيمة إلى أدب نصر". وإذا كانت روايتا الغيظاني والقعيد تبدوان بتألقهما نشازاً، فالسؤال عن سر هذه الحصيلة يظل لائباً بعد نصف قرن، مثل السؤال عن انقطاع الكتابة الروائية عن حرب 1973، وعن عزوف كبار الكتاب المصريين عن هذه الكتابة، وعن إخفاق كبار الكتاب السوريين، بينما لا زالت الكتابة الروائية عن حروب 1967 و 1948 و 1982 تتواصل وتتألق؟ ويبقى أن أشير إلى أنني كتبت عن حرب 1973 روايتين هما (جرماتي ـ و ملف البلاد التي سوف تعيش بعد الحرب – 1977) و(المسلّة – 1980). وقد منعتا في سوريا قرابة العقدين، كما فُصلتُ بسبب الأولى من اتحاد الكتاب في سوريا من 1977 حتى 1983، وللحديث صلة كاوية.