المقالات

الهند في أخيولات عربية

بدأ التفاعل العربي مع الآخر بالتوجه شرقاً إلى أصقاع آسيا، سواء عبر الرحلة أو التجارة أو الحروب أو العلوم والثقافات... بينما توجه هذا التفاعل منذ القرن التاسع عشر إلى الغرب الأوروبي فالأمريكي. لتكن البداية من بطون التراث مع الرحالة والتاجر العراقي سليمان السيرافي الذي بلغ الهند في النصف الثاني من القرن التاسع عشر الميلادي. ووثق رحلته إليها المؤرخ والجغرافي أبو زيد السيرافي، وسمى كتابه (أخبار الصين والهند). وقد أصدر المجمع الثقافي في أبو ظبي هذا الكتاب عام 1999 تحت عنوان (رحلة السيرافي) التي تمور بحكايات وأخبار عن ملوك الهند والبراهمة والكهّان والمنجمين والفلاسفة والسحرة والمزارع والحيوانات و... ويتقد التخييل حين يتعلق الأمر بالغرائب كالأعاصير أو بحر يأجوج ومأجوج (بحر الهند)، كما يتألق وصف الحياة الاجتماعية ووصف دهلي (دلهي) القديمة. وقد ترجمت هذه الرحلة إلى الفرنسية عام 1718. وللهند في رحلة ابن بطوطة (1304-1377)م حضورها المميز، حيث لم يكد يفوّت الرجل شيئاً ولا أمراً: الكاري والصاري والأشجار والفواكه وأصناف الطعام ومحارق الموتى ومحبة سلطان الهند للعرب وزواج أمير عرب الشام من أخت السلطان والمساجد والمكانة الرفيعة للنساء و.... وقد سبق أبو الريحان البيروني (973-1048) ابن بطوطة إلى الهند في كتابه (في تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة). ولقب البيروني بمؤسس الهنديات أو علم الهند. ووسمتْ كتابَه الذاتية، كما لفع التخييل ما ازدخر به الكتاب عن الحياة الاجتماعية والثقافية وعن التاريخ والجغرافيا. الهند في الريادة الروائية: للحلبي فرنسيس المراش (1836-1873) روايته الرائدة (دُرّ الصّدَف في غرائب الصُّدف – 1872). وفيها يهجر سليم بغداد إلى بومباي إثر غدر صديق به بالزواج ممن يحب (زينب). وفي بومباي يعمل سليم عند التاجر الكبير الخواجه باي، ويرثه، ويتزوج من هندية، وينجب منها من يسميها زينب. ثم يلحق بسليم شقيقه أمين وأسرته وزينب الذين نجوا من وباء في بغداد. لكن أمين وزوجته يقضيان قبل الوصول، فتوصل زينب ابنهما إلى سليم، وتعمل متنكرة كمربية لابنته، حتى إذا تزوجت زينب الصغرى، كشفت زينب الكبرى سرها، وتجدد الحب بينها وبين سليم. بعد ربع قرن جاءت رواية (عذراء الهند أو تمدن الفراعنة – 1897) لأحمد شوقي (1868-1932). وتبدأ الرواية بانتصار رعمسيس على ملك الهند دهنش، وبالحب بين عذراء الهند بنت الملك وبين ولي العهد المصري، تبلغ العذراء قصر آشيم، حيث تختفي وتظهر في سياق المؤامرات والصراعات السياسية. ويحضر الوفد الهندي أخيراً، وفي الليلة التي هي "عيد الدهر، بل ليلة العمر، لا بل هي العمر" يُغتال العريس آشيم، فتنتحر عذراء الهند التي كان والدها قد نفاها إلى جزيرة العذارى سبع سنوات عندما علم بأمرها مع آشيم. بعد سوريا ومصر، نمضي إلى العراق حيث الرواية القصيرة (جلال خالد – 1928) لمحمود أحمد السيد (1903 – 1937)، وفيها صورة للفسيفساء المجتمعية العراقية، ويغادر فيها بطلها جلال إلى الهند، مثلما غادر الكاتب نفسه سنة 1919، وعاد بعد سنة. وقد التقى جلال بالكاتب والمفكر الاشتراكي الهندي ف.سوامي وتأثر به، وجلال يقف ضد الاحتلال البريطاني للعراق، مثل الكاتب نفسه. على الباخرة التي أقلت جلال، كانت أسرة يهودية عراقية منها سارة الشابة التي أخفق زواجها ممن تحب. وفي الهند تختفي، حتى إذا عُثر عليها تبيّن أنها بغيّ تعمل في دار بغاء، فتقبض عليها الشرطة. ومن اللافت في الرواية أن الباخرة التي أقلّت جلال وصلت إلى البصرة في يوم 25/7/1920، وهو المعروف بيوم ميسلون في سوريا، وقد حطّم نبأ ذلك اليوم آمال جلال القومية: "لقد احتل الفرنسيون سوريا العربية، وما كان للعرب جيش يدفع عن دمشق العاصمة سيل الغزاة الفاتحين." الهند في الرواية العربية المعاصرة: ونبدأ من اليمن برواية (أيام في بومباي – 1998) لعبد الله سالم باوزير، التي تقوم على رحلة علاجية سنة 1979، يرافق فيها الراوي طفلاً مريضاً من مطار الشارقة، حيث يبدأ تصوير الهنود (أحفاد المهاتما غاندي) بثياب غربية. وفي بومباي يقضي الراوي أيام العيد الهندي الكبير عيد الديوالي، في جولات بين ساكني القصور وساكني الجحور كما يصف مقارناً بين حي الفنادق العامر بالأوروبيين والفرس، وقاع المدينة الذي يشبه حيّ كرتير من مدينة عدن. ويستذكر احتفال الجالية الهندية في كرتير قبل الاستقلال بعيد الديوالي. ومن المشاهد البديعة في الرواية مشهد العجوز التي تتعبد للبحر، وترمي فيه بما تحمل من النقود والأرغفة والزهور، فيغوص الأطفال لينتشلوا النقود. كما يستحضر الراوي - ظل الكاتب - السندباد وابن بطوطة. وهذه رواية (الهندوس يصعدون إلى السماء – 2011) للكاتب العراقي وارد بدر السالم، تقوم أيضاً على رحلة الكاتب من العراق إلى الهند، وقد كان يعتزم المضيّ إلى أبو ظبي، لكنه أبحر إلى الهند، ومضت الرحلة به إلى جبال هيمالايا، حيث مقصد السواح إلا العرب منهم، وليس هذا إلا أهون نقد الذات والسخرية منها، فالرواية التي تسعى إلى وصف الهند جغرافياً وتاريخياً وأسطورياً واثنوغرافياً، تحشد المقارنات الساخرة مع العراق، فكوارث ما كان بعد (التحرير) هي عجائب وغرائب العراق، مقابل الغرائب والعجائب الهندية. والمهم هنا هو أن الصورة الروائية للهند بعامة ولهيميلايا بخاصة تتخلق أخيولات فيما تسمّيه الرواية (عين السائح)، مقابل صورة العراق الكالحة. من الإمارات العربية المتحدة تأتي رواية (عندما أذّن الهندوسي) لمحمد المرزوقي. ويحاول فيها والد الشخصية الهندية المحورية طاغور أن يكسر السلم الطبقي بالزواج من إحدى بنات الطبقة الدنيا في القاع الاجتماعي، فكان أن جازاه المجتمع بالإفراد (إفرادَ البعير المعبّد). وقد فرّ ابنه طاغور إلى الإمارات متخفياً كمسلم، فإذا به منبوذ أيضاً في عداد العمال في القاع. ومن الإمارات تأتي أيضاً رواية عادل خزام (الحياة بعين ثالثة – 2014)، والتي تغزل على الفانتاستيك مما زوّق إهابها الفلسفي. ففي قرية قضى الجفاف عليها، يكتشف الراوي نبعاً، ويظهر له الشاعر والحكيم، فيمضون في رحلة تبلغ بهم (البلاد العجيبة)، بلاد الفنانين والشعراء. وفي الفصل الأخير من الرواية ينتقل الشاعر والحكيم إلى الهند بحثاً عن أسرار الحياة. أما من سوريا ففي رواية حيدر حيدر (شموس الغجر – 1997) يبدو حضور الهند أشبه باستعراض ثقافي أكثر منه ضرورة روائية. وقد تمثّل في عثور الشخصية المحورية راوية في أحد كتب أبيها السرية على صفحتين مما تصفه بالطلاسم الهندية، والتي تدع راوية على حافة دوار، شبه مسحورة، وتحت تأثير حالة سحرية تخطفها إلى فضاء الشرق الأسطوري. أخيراً أشير إلى رواية (أحلام ضائعة – 2021) التي كتبها بالعربية المستعرب الهندي الشاب حامد رضا. وإلى رواية جبور الدويهي (ملك الهند - 2019) والتي ليس فيها عن الهند إلا هذا العنوان الذي لقّبت به شخصيّتها المحورية. كما أشير إلى ما كان للهند من حضور فاعل وباذخ في غير الأخيولات السردية، ومنها مثلاً الكتاب السيري (روح عظيم)، والذي أوقفه عباس محمود العقاد على سيرة المهاتما غاندي. وهل يكتمل حديث الهند في أخيولات عربية إلا في حضرة الشعر، مرموزاً له بالشاعر عمر أبو ريشة في (هنديات) شعره، من قصيدته (حب الأرض) التي أرسلها في (تاج محل) إلى قوله في (معبد كاجورا): "من منكما وهب الأمانْ / لأخيه، أنت أم الزمان؟ / وثب الخيال إلى لقاك / وردّ وثبته العيان".