كان، لا، ما كان، وغير الله ما كان. كان فيه مسرحية اسمها (احتفال ليلي خاص لدريسدن) للكاتب السوري مصطفى الحلاج. والمسرحية تعود إلى الحرب العالمية الثانية حين صبّت طائرات الحلفاء حممها على مدينة دريسدن ليل نهار، طوال دهور، فكل يوم من أيام القصف كان دهراً. وقد زجّ القصف بشخصيات المسرحية في قبو سُدّتْ أبوابه بجبل من ركام الأسقف والجدران والأعمدة ولعب الأطفال وأدوات الجراحة وأسرّة المرضى ومقاعد الدراسة و.... وكان، لا، ما كان، وغير الله ما كان. كان فيه كاتب اسمه نبيل سليمان، كتب عام 1971 عن مسرحية (احتفال ليلي خاص لدريسدن) صح مصطفى الحلاج كأنما يكشف "حقيقة النازية الجديدة: الصهيونية، ويدين الامبريالية العالمية، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، عضد النازية الجديدة الأول". ولأن غزة صارت دريسدن الفلسطينية العربية منذ تفجّر طوفان الأقصى، فقد أقام هذا الكاتب احتفالاً خاصاً لغزة في رأس السنة. وكان قد تردد طويلاً قبل ذلك، وبخاصة بعد أن منعت الأردن والشارقة – من أيضاً؟ - الاحتفال برأس هذه السنة. ولأن زمن غزة بات زمن الكوابيس فقد اختلط الحابل بالنابل، ومن أول ذلك أو آخره أو منتصفه أن الذاكرة عادت إلى البارحة، أي إلى غزة في رأس السنة الماضية، عندما تدافرت الإعلانات: واحد عن حفل غنائي في فندق المتحف، يحييه الفنانون الثلاثة محمد البراوي وطارق البحيصي وحسام الفالوجي، في يوم الجمعة 30/12/2022، والتذكرة بثمانين شيكل، وفي رواية أخرى: خمسون شيكل. وهذا إعلان ثانٍ عن احتفال في مطعم سيدار يوم الخميس 29/12/2022 يحييه الفنان رؤوف البلبيسي، والتذكرة بثلاثين شيكل. أما احتفال السبت 31/12/2022 فهو للعائلات فقط: بوفيه للعشاء وهدايا، والتذكرة بتسعة وسبعين شيكل، فلماذا إذن يتقوّل القوّالون أن شرطة حماس منعت عام 2015 -مثلاً- الاحتفال برأس السنة لأنه بدعة؟ بعيداً عن ذلك الماضي البعيد ها هي دلال أبو آمنة تغني لهذا الاحتفال الليلي الخاص زفّات فلسطينية: (يا رايحين ع صفد / صفّوا لي نيتكم / تلتينْ عقلي شرد / بهوى بنتكم / حلفتكم بالنبي ومنين ميتكم؟ / ميّتنا عين العدرا / شرب النصراوية). وهذه إذن صيغة ثالثة لأغنية (الروزانا)، وكنت حتى سمعت صفدية دلال أبو آمنة أظن انني اكتشفت الصيغة الثانية والأخيرة لأغنية (الروزانا)، باعتبار ما غنّته فيروز هو الصيغة الأولى. وقد سجلتُ اكتشافي للصيغة الثانية في الصفحة 663 من الجزء الثالث (التيجان – الطبعة الأولى 1993) من رباعية (مدارات الشرق)، ومن ذلك: (يا رايحين ع حماة صفّوا لي نيّتكم / ثلثين عقلي شرد / بهوى بنتكم / حلفتكم بالنبي ومنين ميتكم؟ / ميّتنا عاصي حماه / شرب الأفندية). هكذا تهت بين عين العدرا ونهر العاصي، وأمعنتْ دلال أبو آمنة في تتويهي وهي تغني: " يا طلّتْ خيلنا من النقب طلّتْ / نسوانك شعبنا شمختْ ما ذلّت"، وتغني: "نيّالها عكّا نيّالها / بنسوانها ورجالها / فبيوتها وحاراتها نيّالها / نيّالها عكّا نيّالها". ولم تفارقني هذه (العكاوية) ظهيرة السبت السادس عشر من هذا الشهر عندما هاتفت أنطوان شلحت من بودابست إلى عكّا: إذن يمكن لواحدنا خارج فلسطين أن يكلّم فلسطينياً في الداخل، بل وأن يراه ويشم رائحة عكّا والناصرة وحيفا ويافا... وغزّة، والأغنية تغني: (غزة يا نبض بلادنا / مزيونة باسمك أرضنا / غزة يا شعب الجبارين / براياتك تعلى فلسطين). وها هي ريم تلحمي أيضاً تلوّن الاحتفال برأس السنة الغزاوية: (غزة يا بنت بنوت / لأنه الموت ما حبّ الصوت / لحقها جوّا غرفتها / غارْ من صوت ضحكتها / مذّ إيده ع شفّتها / بفكّرْ إنه يسكّتها / وغزّة لسه بتغني وبتمشط بغرّتها). صحوت من الغناء على صوت كأنّما هو العتاقة عينها، ينفخ في بوق أن العرب تقول قد غزّ فلان بفلان واغتزّ به إذا اختصّه من بين أصحابه. فكرت أن غزّة إذن هي ما نختصّ من فلسطين، ليس لأن النازية الصهيونية تبلغ فيها بالهولوكست الفلسطيني أفدح ما يكون، بل لأنها سوف تبدع احتفالها برأس سنتها، فتجمع بين أطراف الزمان والمكان: غزة من أحسن المدن المجاورة لبيت المقدس، وفيها ولد سيدنا سليمان بن داوود: يقول من زمن بعيد مجير الدين الحنبلي المقدسي، ويقول قائل من زمننا، هو عامر المصري الغزاوي: ما كان أن يكتب مشهداً فيه جيب المقاومة يتجول في مستوطنة بغلاف غزة، وهذه الحرب خيال، ويكتب نيروز قرموط إذ يرسم الحرب: أن تخرج من جسدك وتعود إليه، أن تكون أنت كلهم وكلهم أنت. ويحدث في الاحتفال أن يُبعث حياً أحمد درامي، ومثله صلاح عبد الصبور، وها هما يسعيان في غزة ليلة رأس هذه السنة التي لم تبق رأساً ولم تذر. وها هو أحمد يخاطب صلاح: "عاوز تشحن بطاريتك يا صلاح؟ اذهب إلى المخيمات"، فتذهب قولة المحكوم بالمؤبد في عشق أم كلثوم مثلاً للكتّاب والشعراء والفنانين الذين ينشدون ما يلهب قرائحهم وعزائمهم. ففي مخيم جباليا ومخيم الشاطئ ومخيم النصيرات ومخيم خان يونس ومخيم رفح ومخيم البريج ومخيم دير البلح ومخيم المغازي ينابيع لا تنضب لمن يرومون أن يكتبوا أو يرسموا أو يغنوا. ومثل ذلك لهم ولهنّ أيضاً في حي الشيخ رضوان وحي الرمال وحي الشجاعية وحي التفاح وحي الدرج وحي الزيتون وحي تل الهوى وفي حديقة نماء وحديقة مرح لاند وحديقة فلسطين وفي شارع عمر المختار وشارع جمال عبد الناصر وشارع صلاح الدين وشارع الوحدة وفي هذا الميدان وتلك المقبرة وهذه المدرسة وهذه الأنفاق والمشافي. في كل ركن وفي كل حبة رمل وفي كل حبة تراب من هزاتي الكنعانية وغازاتو الفرعونية وعزاتي الآشورية وعزة العبرانية وغزة هاشم العربية ما يُبرئنا من خرس الألسن ويباس الأصابع وعماء البصيرة وصمم الآذان وهلع الأفئدة، ومن داء الرطانة وداء البلبلة وداء الأدلجة ومن حبسة الخيال وحبسة النطق، وقبل كل ذلك وبعده: من الخوف من المخابرات ومشايخ المساجد والكنائس والكُنُس ومن الجوائز والنشر والشاشات والمنصات و... والموت. وكان، لا، ما كان، وغير الله ما كان، كان لي صديق غزاوي هو الدكتور فضل النمس الذي جمعتني به جامعة الزيتونة في عمّان في 22/1/2022. كان فضل قادماً من غزة ينوء تحت الساعات الإسرائيلية التي تتطاول وتغلظ لتجعل ما بين غزة وعمان أطول وأعسر ما بين هذه العاصمة العربية وتلك. وأنا لائب على خبر عن فضل أستاذ النحو والصرف بجامعة الأزهر الغزاوية، وعميد كلية الآداب والعلوم الإنسانية سابقاً بجامعة الأقصى الغزاوية. أستعيد حديثه عن ندوة (المخطوطات العربية وأهميتها في نقل التراث والحضارة العربية) احتفاءً بيوم المخطوط العربي في الرابع من نيسان – إبريل سنوياً. مساء يوم الأحد الحادي والثلاثين من كانون الأول – ديسمبر من سنة 2023 سألتقي صديقي فضل في الاحتفال الغزاوي الليلي الخاص لرأس السنة، حيث سيندغم الزمان بالمكان، وتمور غزة بالحكواتية والمنشدين والصالونات الأدبية والجمعيات الثقافية والبواخر التي تنوء بالشعير والصابون وتسابق السيارات من غزة إلى يافا قبل أن تبدأ أمسية أسمهان أو أمسية محمد عبد الوهاب أو أمسية أم كلثوم ممن سوف يحيون الاحتفال الليلي الخاص لرأس السنة الغزاوية بعد الاحتفالات اليافاوية والحيفاوية والنابلسية والمقدسية، ولكن يا رب: ما هذا؟ يا بشر ما هذا؟ يا تاريخ يا حضارات، ما هذا؟ وكان، لا، ما كان، وغير الله ما كان، كان فيه .....