المقالات

الأدب العربي في الجامعات الهندية

كانت البداية مع فيلم (من أجل أبنائي) عام 1960، حين أبكاني هذا الفيلم الهندي، ووقعت في سحر الممثلة نرجس التي لعبت دور رادا، وأذهلني الممثل راج كابور الذي أسرني أيضاً في فيلم سنغام، فعزمت على زيارة الهند، وكنت في الخامسة عشرة. وما فتئ العزم يتجدد من سنة أو عقد إلى سنة أو عقد، تطاولا حتى شهر أيار - مايو الماضي، ولكن التجدد بات بفعل القراءة، وإن كنت ظللت متابعاً للسينما الهندية، بالأحرى: لغررها. كانت البداية بما للهند في (ألف ليلة وليلة) وفي رحلة ابن بطوطة وما أكثر ما رددتُ في الجامعة في ستينيات القرن الماضي خلف أبي العلاء المعري: "حرق الهند من يموت فما/ زاروه في ردحةٍ ولا تبكير". وابتداءاً من ترجمة وديع البستاني (1986 – 1954) المبكرة لملحمتي الرامايانا والمهابهارتا ولأشعارٍ من طاغور، إلى ما كتب ميخائيل نعيمة أو عباس محمود العقاد عن المهاتما غاندي، وما قال فيه الشاعر القروي أو جميل صدقي الزهاوي أو أحمد شوقي ... توالى افتتاني بذلك الشرق الذي لا تفتأ رسومه تتجدد من قصيدة لعبد الوهاب البياتي في طاغور، إلى ما قال عمر أبو ريشة في تاج محل، وفي معبد كاجورا – وأوله: (من منكما وهب الأمان/ لأخيه، أنت أم الزمان؟) – وصولاً إلى حضور الهند في الروايات العربية، منذ (درّ الصَّدَف في غرائب الصُّدف – 1872) لفرنسيس المراش (1836 – 1873)، ورواية (عذراء الهند أو تمدّن الفراعنة – 1897) لأحمد شوقي، ورواية (جلال خالد – 1928) لمحمود أحمد السّيد (1903 – 1937). ومن الروايات التي حضرت الهند فيها مؤخراً في فوران الرواية العربية (أيام في بومباي – 1998) لعبد الله سالم باوزير، و(الهندوس يصعدون إلى السماء – 2011) لوارد بدر السالم، و(الحياة بعين ثالثة – 2014) لعادل خزام. لقد كان كل ما قرأت أو شاهدت مما يتعلق بالهند يجدد الحلم القديم بزيارتها إلى أن رأيت فيما يرى النائم الحالم أنني في مطار دلهي. وعندما عانقني الصديق مجيب الرحمن، وأخذت سيارته تتهادى ما بين المطار وفندق جاي بي كونتينتال، صدقت أنني في (عِلْم) وليس في حلم. كنت أعلم أن هذا البروفيسور بالغ التواضع والحيوية هو أحد أركان الأدب العربي واللغة العربية في أعرق الجامعات الهندية: جامعة جواهر لال نهرو الحكومية التي أُسّست عام 1969، وتحتل المرتبة الثانية بين 350 جامعة هندية. كما يرأس مجيب الرحمن مركز الدراسات العربية والإفريقية في الجامعة. وقد أُسّس المركز عام 1973، وهو من أرقى وأكبر أقسام اللغة العربية في عشرات الجامعات التي تدرّس الأدب العربي. ويشمل التدريس في المركز مراحل البكالوريوس، والماجستير، والدكتوراه، ويصدر عدداً من المجلات المحكمة: مجلة دراسات عربية، مجلة (هلال الهند) البحثية الفصلية الالكترونية، مجلة (قطوف الهند) البحثية الفصلية الالكترونية. ويرأس مجيب الرحمن تحرير هذه المجلات. اما مجلة (الجيل الجديد) نصف السنوية، والمحكمة، فيرأس تحريرها البروفيسور رضوان الرحمن. مجيب الرحمن هو عضو مجلس أمناء مجمع الملك سلمان العالمي للغة العربية، ويحمل عددأ من الجوائز. ومن مؤلفاته: (رؤى حضارية في العلاقات الثقافية بين الهند والعالم العربي). كما وضع عدداً من الكتب في تعليم اللغة العربية وهي مقررة في جامعة أنديرا غاندي المفتوحة. ومن ترجماته من الهندية إلى العربية رواية (نهر النار) تأليف آغ كا ديرا. صبيحة يومي الأول كانت عمارات وغابة جامعة جواهر لال نهرو أول ما امتلأت به عيناي من على شرفة غرفتي. وفجأة وجدت نفسي بصحبة مجيب الرحمن في البناء القديم لكلية اللغة والأدب والثقافة: طلاب وطالبات يفترشون الممر أو يعبرونه هَوناً، وهذا هو المكتب المتواضع لمجيب الرحمن يضيق بالكتب، وعما قليل يضيق برهط من الطلبة، يقدمني لهم ويقدمهم لي، فقد شكل منهم أستاذهم مجموعة على الواتس، وأعطاهم رقم هاتفي، إذ سوف يتولى اثنان منهم كل يوم مرافقتي في أنحاء دلهي القديمة ودلهي الجديدة، خارج أوقات محاضرتي، وأولاء جميعاً من طلبة الدراسات العليا. إلى مكتب رئيس قسم اللغة العربية البروفيسور رضوان الرحمن، انتقلنا، وسرعان ما احتشد المكتب بأساتذة القسم، فكأنني مع أصدقاء قدامى أو في بيت أُسري. ومن الكثير الذي تحفل به سيرة رضوان الرحمن، حسبي أن أذكر ما كتب بالإنكليزية حول ألف ليلة وليلة، وترجماته لعدد من القصص القصيرة العربية إلى الهندية والأردية، وهو صاحب مساهمات علمية إدارية في مؤتمرات وندوات شتى، كالمؤتمر الأول حول اللغة العربية في القرن الحادي والعشرين، أو الندوة الوطنية حول دور جامعات دلهي في إثراء اللغة العربية، والتي نظمت في جامعة نغر نيودلهي عام 2020، وركز فيها رضون الرحمن على تدريس العربية كلغة حية عالمية. في تتمة اليوم الأول سوف يعجل بي ذو القرنين إلى المسجد الجامع الذي بناه الامبراطور المغولي شاه جاها سنة 1656 م. في دلهي القديمة. وذو القرنين سيدافع بعد قليل عن أطروحته للدكتوراه حول (اتجاهات الغزل في زمن ملوك الطوائف في الأندلس) تحت إشراف مجيب الرحمن. وفي الغداة كانت محاضرتي الأولى، حول شواغلي في رواياتي، وفي رأسها الحفر في التاريخ، والاشتباك بالحاضر اجتماعياً وسياسياً وفكرياً وروحياً، وكذلك: التجريب. ولا زلت لا أصدق ذلك التفاعل الحميم مع حشد الطلبة والأساتذة، وبخاصة عندما بدأ الحوار الذي أداره مجيب الرحمن بحرفية. هنا أقفز إلى الحشد الآخر الذي سيشغلني في الأيام التالية، وما هو إلا ما شهدت هذه الجامعة والجامعة الملية الإسلامية وجامعة دلهي من أطروحات الماجستير والدكتوراه حول أعمال طه حسين ورفاعة الطهطاوي وأحمد أمين ونجيب محفوظ ونزار قباني وإميل حبيبي وغسان كنفاني و مي زيادة وإيليا أبو ماضي وجميل صدقي الزهاوي وعبد الحكيم قاسم وعمر أبو ريشة الشاعر السوري الذي كان سفيراً في الهند.... وقد اهتممت بخاصة بالدراسات المقارنة ومنها: بين المتنبي ومرزا أسد الله، ومنها أيضاً: القيم المتماثلة في شعر معروف الرصافي وميتلي شرن غوبتا، وهي أطروحة رضوان الرحمن تحت إشراف فيضان الله الفاروقي. كما اهتممت بالأطروحات حول أدبنا الحديث، مثل رواية غازي القصيبي (العصفورية) لعبد الوكيل، ونشأة القصة القصيرة في المملكة العربية السعودية، والأطروحتان تحت إشراف رضوان الرحمن. أما مجيب الرحمن فمن الكثير الهام الذي أشرف عليه كانت أطروحات حول أعمال حنا مينه وفدوى طوقان وسهيل إدريس وعبد الرحمن الشرقاوي... وصولاً إلى رواية عبده خال (ترمي بشرر) للطالب نو شاد علي وي بي، ورواية سعود السنوسي (ساق البامبو) للطالب تجميل الحق، والأعمال الأدبية لخالد الفيصل بن عبد العزيز آل سعود، للطالب عافر صفي الرحمن، والمرأة السعودية بين الحداثة والمحافظة، للطالب عبد المغني... وتحت إشراف البروفيسور عبيد الرحمن طيب أنجز محمد شاهنواز عالم أطروحته حول أعمال بهاء طاهر، وأنجزت شادية تبسم أطروحتها عن روايات عبد الرحمن منيف، وأنجز عزيز ضياء أطروحته حول أدب السيرة الذاتية في المملكة العربية السعودية، كذلك: ثنائية اللغة وإشكاليات المثاقفة في كتابات أهداف سويف مع التركيز على روايتها خارطة الحب للطالبة فاطمة نسيم – الاغتراب في الروايات العربية الحديثة 2000 – 2015 للطالب معين الدين. من مؤلفات عبيد الرحمن طيب (النزعة الإنسانية في كتابات جبران خليل جبران) ومن ترجماته إلى الأردية (الموجز في تاريخ الإسلام). وقد أسعدني أنْ قضيت مسائي الأخير في دلهي بصحبة عبيد الرحمن طيب وزميله محمد أجمل صاحب المساهمات العديدة الهامة، ومنها كتابه (الحديث النبوي والأدب العربي عند العالم الهندي الشيخ محمد أنور شاه الكشميري). ومحمد أجمل هو مترجم رواية الطيب صالح (موسم الهجرة إلى الشمال) إلى اللغة الأردية. من بوابة الهند إلى ضريح الامبراطور همايون المغولي إلى غيرهما من خبايا دلهي القديمة رحت أقضي سحابة النهار وشطراً من الليل، أغلبها مشياً، بصحبة قاسم الدرغاوي الذي يُعد الدكتوراة حول (البنية العجائبية لمقاربة الواقع في روايات ربيعة الجلطي)، بإشراف مجيب الرحمن. والدرغاوي زعيم الطلابي أيضاً. وقد نعمت بصحبته والطالب طاهر الإسلام إلى تاج محل... حتى إذا أزف الموعد مع الجامعة الملية الإسلامية في نيو دلهي يوم 2/ 6/ 2023. كان من جديد كان اللقاء الحاشد مع الطلبة والأساتذة في مكتبة عبد الحليم في قسم اللغة العربية وآدابها، يتقدمهم رئيس القسم البروفيسور عبد الماجد قاضي الذي ترجم الشعر السنسكريتي إلى العربية، وصاحب كتاب (التشبيه القرآني في ميزان الفن). وفي المقدمة كان أيضاً البروفيسور نسيم أختر الندوي مستشار منتدى الباحثين في الجامعة. تَعَنْوَنَ هذا اللقاء بتجربتي في الرواية وفي النقد. ولعل لواحدنا أن يسعد بقدر ما يكبر إحساسه بالمسؤولية عندما يلتقي بمن قرأ له وعنه، فيكون لديه بالتالي ما يناقش فيه. ولا يتعلق الأمر فقط بما كتبت، بل بما كتب آخرون، منهم الياس خوري الذي يعد عن رواياته أشرف أخلاق أطروحته للدكتوراة. كذلك هي روايات رضوى عاشور التي يعد بهاء الدين أطروحته عنها. وتتواصل السلسلة إلى روايات هدى بركات ومحمد حسن علوان وحنا مينه... أُسست الجامعة الملية الإسلامية علم 1920. ومن المؤسسين ذاكر حسين وغاندي الذي قال عنها: "لقد بقيت الجامعة واحة للسلام في صحراء العنف الطائفي". ومن هذا الصرح العلمي والحضاري العتيد انتقلت في 5/ 6/ 2023 إلى جامعة دلهي التي أُسست عام 1922، وفيها 91 كلية وعشرات آلاف الطلاب، كان لي نصيب اللقاء بثلّة منهم، ترددت فيه أصداء وصور اللقاءين السابقين مع طلبة الجامعة الملية الإسلامية وجامعة جواهر لال نهرو. وكما تفضلت هاتان الجامعتان بتكريمي، كان في جامعة دلهي، وفي الصدارة الأساتذة الأجلاء محمد نعمان خان (محقق كتاب ابن منظور: المنتخب والمختار في النوادر والأشعار) وضيفا الشرف أميتا تشاركافاني مدير كلية الآداب والفنون في الجامعة، وتشاندرا تشيكهار مدير العلاقات الدولية في الجامعة، ونعيم الحسن الأثري (ومن كتبه: فيوض الخواطر) ومحمد ثناء الندوي الذي زار المعري في مدينته مرتين. قبل أن أصحو من الحلم كان الطالب عليم الدين قد عزم على أن تكون أطروحته عن الحرية في روايات نبيل سليمان، وكان الطالب نديم محمد قد عزم على أن تكون أطروحته عن رباعية مدارات الشرق، وكنت قد أدمنت التنقل بذات العجلات الثلاث: التوك توك – الأليفة أيضاً في كوبا والفيليبين والصين وسريلانكا ومصر و... كما كنت قد نسيت نفسي في غرفة نوم غاندي، وحيث تلقى الرصاصات الثلاث، وفي صالون الاستقبال في بيت أنديراغاندي، وفي قطب مينار، ودوماً، في يوم الحشر الهندي، فحيثما توجهتَ، ليل نهار، أنت بين الآلاف المؤلفة، تتقرى صنوف الساري أو تشهد حرق ميت أو تشاهد فيلماً قديماً من زمن الأبيض والأسود، لعله فيلم (من أجل أبنائي) أو فيلم (سنغام)، ومهما يكن من أمر، فسوف يتجدد الحلم الذي ابتدأ عام 1960، ما دام للغة العربية وآدابها في الجامعات الهندية، وفي الثقافة الهندية والحياة الهندية كل هذا الحضور وهذا البهاء.