تأتي الجغرافيا الواقعية والمتخيلة في رأس الأسس الروائية المكينة، بما بينهما من صلات غامضة أو سرانية أو شفيفة. وهذا ما يؤثر فرانكو موريتي أن يسميه الجغرافيا الأدبية. وقد استقيت منه الدعوة إلى أطلس للرواية العربية. فكما درس جغرافيا لندن في روايات ديكنز أو جغرافيا باريس في روايات بلزاك، تنادينا القاهرة في روايات نجيب محفوظ أو جمال الغيطاني، أو الإسكندرية في روايات إدوار الخراط أو إبراهيم عبد المجيد، أو حلب في روايات وليد إخلاصي، أو بغداد في روايات غائب طعمة فرمان، أو اللاذقية في الباقة الروائية التالية: اللاذقية في روايات حنا مينه: في روايته الأولى (المصابيح الزرق – 1954) تألقت مدينة اللاذقية كمكوّن جغرافي خلال الحرب العالمية الثانية، ابتداءً بحيّ القلعة بأزقته الضيقة وأبنيته الحجرية المتقاربة وأبوابه الشبيهة بالكوى والباحات الواسعة التي تتوسطها الزهور والأشجار. وعلى خاصرة التلة التي يتّكئ الحي عليها ويعلوها جامع المغربي، وحيث لا أثر للقلعة إلا اسم الحي، ترتمي أكواخ وبيوت. ومن السفح يندلق إلى البحر الشارع الذي حمل اسم فرنسا حتى أُبدلَ في الخمسينيات باسم عدنان المالكي. وقد كان في رأس هذا الشارع دكان الحلاقة الذي عمل فيه حنا مينه أجيراً. وكان حيّ القلعة يمور كما صوّرته الرواية بالدكاكين والأفران والمقاهي، كما في حيّ الصليبة أو حيّ الكاميله أو حي الشيخ ضاهر، والأخير هو مركز المدينة التاريخي. عاشت في أنحاء اللاذقية شخصيات الرواية الي لا تُنسى: الشاب فارس والست بربارة صاحبة النادي الذهبي ومريم السودا والاسكافي عازار وأم فارس العاملة في معمل الريجي وسواهم ممن شغلوا المستشفى ذا الآجر الأحمر وسينما أمبير ومجلس السمار في الليالي المقمرة على صخور الشاطئ، إنه البحر أولاً والبحر أخيراً. ولد حنا مينه في اللاذقية عام 1924 وفيها كان مثواه الأخير عام 2018. وقد سكنت المدينة سرائره براً وبحراً. وإذا كان للبحر حكاية أخرى مع حنا مينه، فها هو يعود إلى اللاذقية روايةً بعد رواية، كلما غاب عنها روايةً بعد رواية. ومن عوداته ثنائية (حارة الشحادين – 2000) و (صراع امرأتين - 2001). وجغرافيا الثنائية هي حارة الشحادين إبّان الحرب العالمية الثانية، وهذه الحارة حي شعبي عتيق – قرب حي الصليبة العتيق أيضاً – صار اسمه الرسمي حي الأشرفية. ولأن لاذقية حنا مينه منجم للشخصيات الروائية الشعبية بخاصة، تمور هذه الثنائية بشخصيتيّ شكوس وغنوج اللتين تتصارعان على حمداش العازم بعد خروجه من السجن على قتل الفرنسي الكابتن روجيه.. من الأحياء إلى الميناء تمضي رواية (نهاية رجل شجاع – 1989). ففي ذلك الفضاء الصاخب بالبواخر والقوارب والمستودعات تقوم (غابة وحوش)، ويضطرم الصراع بين الريّاس والبحارة و اللصوص، والذي يتصادى أيضاً في أحياء المدينة، ومن الأحياء والمعالم ما هو قائم اليوم، لكنه تضاعف: حي الرمل والسجن ومقهى العصافيري و.... ومن ذلك ما سيكون أيضاً المكون الجغرافي وبخاصة الميناء، في رواية (الرأس والجدار – 1977) للكاتب اللاذقيّ الذي رحل مبكراً عبد الله عبد (1928 – 1976). اللاذقية في رواياتهم: من الكتّاب اللاذقيين الراحلين أيضاً هاني الراهب (1939-2000). وقد رسمت روايته (الوباء – 1981) صوراً بديعة للاذقية منذ منتصف القرن الماضي، حيث لا تزال الجغرافيا قائمة وإن يكن قد نالها من التحولات ما نالها، مثل سوق العنابة وأزقته أو قبر الولي في حي الطابيات – هل هو ضريح أبي الدرداء؟- أو البطرني الذي يحرس البحر منذ قرون. أما الكورنيش الذي كان متنفّس المدينة وأتى عليه توسيع المرفأ، فيحضر في الرواية في زمنه الزاهي، وثمة شرفة نادي الضباط، حيث خطب جمال عبد الناصر عندما زار المدينة عام 1959. وتتقاطع حيوات ومصائر شخصيات رواية (الوباء). في أرجاء المدينة، من الزاروب الذي يتموج ببائع الحليب والبسطات إلى الشاليهات ومخيم الفلسطينيين إلى الأمواج الصغيرة المدفدفة على الصخر المنخور، فالبحر أولاً والبحر أخيراً. حضرت اللاذقية أيضاً في رواية هاني الراهب (شرخ في تاريخ طويل – 1970) ولكن بشكل ثانوي يتلامح فيه شارع هنانو ونادي الضباط والميناء. وعلى نحو مماثل هي المدينة في روايتيّ حسن صقر (شارع الخيزران – 2014) و (طائر الرحيل – 2018)، وفي رواية روزا ياسين حسن (أبنوس – 2004)، وفي رواية منذر بدر حلوم (سقط الأزرق من السماء – 2009)، ومنها في فقرة (على لسان البحر) ما يبدو من عالم الميناء حيث "كل شيء من حديد، حتى نظرات الرجال"، وحيث أرواح الماء تختلف بين ميناء الصيد وميناء الشحن وميناء السفر. لكن المدينة تعود إلى حضورها الفعّال في روايات عديدة لكتّاب وكاتبات من اللاذقية، سوى اثنين ليسا منها، لكنهما أقاما فيها فترة، أولهما ابتسام التريسي في روايتها (الشارع 24 شمالاً) التي يترامى زمنها قرابة قرن، من الجدة وداد التي قدمت الورد لشكري القوتي رئيس الجمهورية قبل الاستقلال إلى نشوء الأحياء الشعبية: السكنتوري ومخيم الرمل الفلسطيني، إلى الحفيدة وزمن العمارات الشاهقة التي لم تترك من الماضي غير لوحة تحمل عنوان الرواية. الرواية الثانية هي (ليالي اللاذقية) للكاتب الفلسطيني سليم النفار. وقد نشرت الرواية في حيفا في السنة الماضية، وهي تستعيد زمن الكاتب في اللاذقية من المخيم الفلسطيني إلى حارات وأسواق بستان الصيداوي وشارع هنانو وساحة الشيخ ضاهر وجامع عاشور ومعسكر الطلائع وثانوية جول جمال – التي درس فيها أدونيس وحافظ الأسد وحسن صقر وغازي أبو عقل – وحديقة المارتقلا وجامعة تشرين وحي السكنتوري الفقير ومقابله حي الطابيات الأثرى... بالعودة إلى أبناء وبنات اللاذقية تتصدر رواية سوسن جميل حسن (النباشون – 2011) التي تركزت في قاع المدينة، من الحجرات البدائية ورائحة البحر العفنة والأزقة المبلطة المبللة بمياه الصرف في حي السكنتوري، إلى نظائره في بستان الحميني والغراف والرمل الفلسطيني، إلى سوق التجار ومعمل الريجي – حيث تعمل جميلة كما كانت لبيبة في رواية نهاية رجل شجاع- وقلب المدينة: ساحة السمك... وكل ذلك هو السبيل اليومي لنباش مستوعبات وأكوام القمامة جمعة الأعرج وحماره الأعرج أيضاً. وهذه أيضاً رواية زياد عبد الله (ديناميت – 2012) التي تعود إلى السبعينيات حتى التسعينات، وفيها المحامي المسكون بالمدينة أحمد البطم، والذي يحفر في تاريخها. ومن القطار إلى قوس النصر الروماني إلى الثكنة إلى ما سبق أن ملأ الروايات الأخرى، تقوم المدينة في هذه الرواية. أما الرواية الأحدث التي صدرت منذ شهور فهي (منازل الأمس) لسومر شحادة. واللاذقية فيها هي لاذقية العقدين الماضيين، منذ عهد شخصيتيها المحوريتين نسرين وكارم بالجامعة وسكناهما في حي المشروع الأول، إلى زواجهما والإقامة في الشارقة ودبي، حيث تظل اللاذقية حاضرة: مقهى العصافيري وشارع هنانو وحديقة البطرني والميناء والمخيم الفلسطيني مما رأينا في الروايات السابقة، إلى مطار اللاذقية وشارع القوتلي وبناية الأوقاف وطريق الحرش والشاطئ الجنوبي... حتى إذا حملت نسرين عادت إلى عالم أبيها وطفولتها، ونقرأ: "فالعالم الحقيقي هو العالم القديم في اللاذقية.. لم يكن لها مكان في مدينة المستقبل، مدينة العالم الجديد: دبي". تلك هي لمحات من الجغرافيا الواقعية والمتخيلة لمدينة اللاذقية، بالأحرى لمحات من لاذقية الروايات التي كان لي منها نصيب يسير في رواياتي (هزائم مبكرة – 1985) و (مدائن الأرجوان - 2013) وتحولات الإنسان الذهبي – 2022).